تتعافى القطاعات البحرية بشكل كبير بعد تراجع عانت منه خلال العامين الماضيين، ويرجع النمو بشكل أساسي إلى عودة تنامي أعمال الشركات وتفعيل عملياتها بعد التعافي من تأثير جائحة كورونا. وفي السياق نفسه، يستمر التحول في صناعة بناء السفن بتسجيل أرقام قياسية، متجاوزا التوقعات بعد سنوات من الأداء البطيء. من خلال دراسات السوق، يظهر أن الصناعة تتميز بإشارات نمو إيجابية، حيث أن عام 2021 سيوفر سنوات من العمل لشركات بناء السفن.
مع ظهور طلبات جديدة لبناء سفن الحاويات، تشير شركة Clarkson Research المتخصصة بدراسات وأبحاث السوق في تقرير حديث لها، إلى أن الحجم العالمي الإجمالي لطلبات بناء هذا النوع من السفن على أساس الحمولة الإجمالية هو الأكبر منذ أن بدأت الشركة بمتابعة أرقام السوق منذ عام 1996. وتعتبر أن هذا الحجم يقارب معدل 12 ضعف الحجم الإجمالي للطلبات التي تم تقديمها خلال القسم الأول من عام 2020. بالإضافة إلى ذلك، تجاوزت الطلبات الآن آخر فترة ازدهار في العام 2007.
ولكن أمام كل هذه التوقعات للصناعة، كان على السوق التعامل مع العديد من التحديات والتطورات الجديدة. فكيف تتكيف أحواض بناء السفن وموردو المعدات مع كل التحديات التي تطرق على السوق؟ بالنظر إلى التكنولوجيا الذكية ولوائح المنظمة البحرية الدولية الجديدة وتحديات الوقود وإزالة الكربون؟
تتطرق مجلة "ربان السفينة" في هذا العدد إلى حال أحواض بناء السفن، وتكيّف الشركات المتخصصة بصناعة السفن مع مستجدات وتحديات السوق، من خلال آراء الخبراء الذين يقاربون الموضوع انطلاقا من وجهة نظرهم وخبرتهم في هذه السوق.
ينقل لنا الدكتور إبراهيم النظيري، الرئيس التنفيذي لأسياد للنقل البحري والحوض الجاف، ومقرها سلطنة عمان، توقعات السوق حيث أنه من المتوقع أن تنمو السوق العالمية لإصلاح السفن بنسبة 25% في الربع الرابع من عام 2021 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ويقول: "يعود هذا النمو إلى إعادة ترتيب الشركات لعملياتها والتعافي من تأثير الجائحة الذي أدى في وقت سابق إلى إجراءات تشمل التباعد الإجتماعي والعمل عن بُعد وإغلاق الأنشطة التجارية التي أدت إلى تحديات تشغيلية. لا شك أن موضوع الوباء متشابك مع القضايا البيئية العالمية مثل تلوث الهواء والماء، وإدارة النفايات، سواء من حيث الآثار المترتبة على النتائج البيئية أو رفاهية المجتمعات في المستقبل".
من جهته، يصف Alastair Bisset، المدير العام في شركة الزامل لبناء وإصلاح السفن، ومقرها المملكة العربية السعودية، مشهد السوق بشكل عام إثر تبعات الجائحة، معتبرا أنه لا يمكن التقليل من تأثيرها حيث أن العالم بأسره قد تأثر. ويكمل قائلا: "في عملنا، كان علينا الإستمرار، واضطرت السفن والطواقم إلى مواصلة العمل؛ فخلف كل التفاصيل، واصلت صناعة النقل البحري عملها بالكامل. لقد كان للجائحة تأثيرا كبيرا على العديد من الأشخاص، بما في ذلك موظفينا أيضا. كانت التحديات الرئيسية التي واجهناها هي التأكد من أن لدينا موارد كافية قادمة، وقد بذلنا الكثير من الجهود لجلب أشخاص من دول أخرى وزيادة التوظيف المحلي باستخدام مقاولين محليين. لكننا نجحنا في إنجاز العمل وهذا دليل على مهارة وتفاني الأفراد؛ وكان الجهد الذي بذله عمال حوض بناء السفن رائعا".
متطلبات المستقبل
وفي ضوء متطلبات السوق والتحديات والتشريعات المفروضة على الصناعة، يعتبر Bisset أن القواعد مهمة جدا ولا بد من فهمها، لأن صناعة النقل البحري منظمة جيدا، بدءا من اللوائح البيئية إلى اللوائح المتعلقة بإنقاذ حياة الأفراد، التي يتم التحقق من الإمتثال بها سنويا من قبل هيئات التصنيف: "هذا هيكل جيد لا بد لنا أن نكون فيه لأنه منظم. علينا أن نستمر في الإستثمار في قدراتنا ومنتجاتنا لإبقائها ملائمة مع متطلبات السوق، ونحن نحاول أن نؤكد لعملائنا أن جهودنا في بناء السفن وخدمات الإصلاح هي ملائمة لمتطلبات المستقبل، من خلال الحصول على المعدات المناسبة وإيجاد الحلول بواسطة المهارات المشتركة لدينا: بناء السفن وإصلاحها وتصنيعها. فمرونة الأعمال تكمن في القدرة على التعامل مع الأسواق المختلفة؛ وهذا ما يساعد القوى العاملة على الإستقرار خلال تقلبات السوق."
ويعتبر Bisset أن التحدي الأكبر يتمثل في بناء مركز بحري أوسع في المنطقة وشبكة من الموردين والمعدات للتصنيع محليا، "لنكون قادرين على توفير المنتج جنبا إلى جنب مع خدمات ما بعد البيع، وهذا ما يجعلها سوقا تتميز باكتفاء ذاتي أكبر."
أما Helen Poloychronopolou رئيسة اتحاد مصنعي ومصدري المعدات البحرية اليونانية HEMEXPO ونائب رئيس اتحاد أحواض بناء السفن والمعدات البحرية في أوروباSea Europe ، تعتبر أن التحديات عديدة وفي مجالات مختلفة، حيث أنها لا تكمن في اللوائح الجديدة الصادرة عن المنظمة البحرية الدولية للوقود وإزالة الكربون من النقل البحري فحسب: "هناك أيضا تحديات تتعلق بمحركات السفن والبنية التحتية؛ تظهر تقنيات خضراء جديدة كل يوم تقريبا والتي تتعلق بجميع الأجزاء أو الوظائف المحتملة للسفينة أو حوض بناء السفن أو حتى الميناء. بالإضافة إلى ذلك، ستلعب الرقمنة والذكاء الإصطناعي دورا رئيسيا في تنسيق وتحسين أداء جميع الأنظمة. من خلال هذا الوضع متعدد الإتجاهات، أعتقد أن صناعة النقل البحري قد استجابت بشكل ممتاز، وفي كثير من الحالات أعتقد أنها تواكب التطورات".
تزايد الطلب
ولكن ما هو حال الطلب في سوق بناء السفن؟ يتحدث النظيري عن تزايد الطلب في أحواض بناء السفن بعد تخفيف قيود الجائحة، ويصف لنا نجاح أسياد للنقل البحري والحوض الجاف في إعادة تسليم حوالي 50 سفينة بعد تركيب أجهزة معالجة مياه التوازن، كما سلمت 4 سفن تم تركيب أجهزة تنظيف الغاز على متنها. وهنا يؤكد النظيري: "نتلقى استفسارات متعددة حول نوع السفن التي يركز عليها الحوض. في الوقت الحالي، تعمل الشركة على تأمين حوالي 15 مشروعا للأشهر القادمة، حيث تمت زيادة عدد مشاريع الإصلاح والصيانة بنسبة 20% في الربع الرابع مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي".
تأخذ أسياد للنقل البحري والحوض الجاف نهجا مرحليا من حيث نوع وحجم السفن التي سيتم التركيز عليها في عمليات البناء؛ ستركز المرحلة الأولى على بناء أنواع صغيرة إلى متوسطة يصل طولها إلى 120 مترا مثل سفن الأبحاث السمكية، وسفن الدعم البحري، وأنواع مختلفة من البارجات (المخصصة للطواقم أو حتى المسطحة)، القاطرات، زوارق الإنزال، قوارب الدعم والصيد والقوارب الصغيرة.
ويتابع النظيري حديثه معتبرا أن بناء السفن هو أحد مسارات التنويع للحوض الجاف في أسياد، الأمر الذي سيعزز الميزة التنافسية للخدمات البحرية في عمان. "الإستفادة من الخبرة الواسعة في الإصلاح والصيانة مع التقنيات الحديثة الجديدة لمنشأة بناء السفن قد مكنت الحوض الجاف من خوض هذا الإتجاه الجديد. بالإضافة إلى ذلك، يندرج هذا ضمن تكامل الخدمات اللوجستية البحرية التي تقدمها مجموعة أسياد لعملائها المحليين والدوليين ويتماشى مع الإستراتيجية اللوجستية الوطنية 2040 لوضع عمان كمركز لوجستي عالمي".
الرقمنة والحلول الذكية
مع استمرار الصناعة البحرية في تبني الرقمنة، ستحتاج أحواض بناء السفن والشركات المصنعة إلى النظر في قدرات الصناعة لتظل قادرة على المنافسة، حيث يتغير تصميم السفن والبنية التحتية بما يتماشى مع التطورات التكنولوجية الجديدة والتقدم في الأتمتة. وهنا، تشاركنا Poloychronopolou أفكارها حول كيفية استجابة مصنعي المعدات البحرية وأحواض بناء السفن والتكيف مع اللوائح المتغيرة وازدياد تبني الرقمنة.
تؤمن HEMEXPO أن السوق الأسرع نموا لشركاتها هي سوق التقنيات والحلول الرقمية، إذ يتسارع التحول نحو الرقمنة والأتمتة في الصناعة البحرية التي تشهد حاليا الثورة الصناعية الرابعة. وتعتبر Poloychronopolou أنه بالإضافة إلى النظر في المعدات التي تنتجها كل شركة، يحتاج أعضاء HEMEXPO إلى التكيف مع هذا الإتجاه الجديد وزيادة الجهود من أجل تلبية المتطلبات المتغيرة لصناعة النقل البحري: "سيكون التعاون أمرا أساسيا في الوقت الذي نبدأ فيه هذا العصر الرقمي. وفي إدراكنا لذلك، تعمل HEMEXPO على دعم الأعضاء في البحث عن تقنيات جديدة وتطويرها".
التحديات.. دائمة
لكن في المقابل، قد لا تكون الأمور جيدة بشكل تام، بحسب ما تؤكد Poloychronopolou. فبينما تركز صناعة المعدات البحرية على تطوير حلول جديدة لمواجهة التحديات في مجال ما، يظهر تحد جديد في مجال آخر، لذلك هناك دائما شيء جديد يتطلب موارد إضافية: "في الوقت نفسه، تستمر اللوائح أيضا في التغيير مع تطور الأوضاع في جميع المجالات. على سبيل المثال، هناك ضغط لتغييرات في لوائح المنظمة البحرية الدولية بحيث يصبح النقل البحري بحلول عام 2050 خال من الكربون. ومع ذلك، تستمر التكاليف لتحقيق ذلك بالإرتفاع، ويقدر اليوم أن حاجة السوق بحلول عام 2050 ستقارب 1.1 تريليون دولار".
أنظمة معالجة مياه التوازن
وعن عمليات تثبيت أنظمة معالجة مياه التوازن على متن السفن، تقول Poloychronopolou أن النطاق الزمني لإكمال مرحلة هذه التحديثات معروف منذ دخول الإتفاقية حيز التنفيذ في 8 سبتمبر 2017. وقد اختار العديد من ملاك ومدراء السفن أنظمة المعالجة المناسبة لسفنهم وقاموا بالخطط اللازمة وفقا لجداول الصيانة في الحوض الجاف الخاصة بهم. "حتى الآن، لا توجد مؤشرات تشير إلى وجود أي مشاكل مع قدرة موردي المعدات على توصيل معدات أنظمة معالجة مياه التوازن، أو التوافر العالمي لقدرة أو سعة الحوض الجاف. لذلك، لا يزال هناك وقتا كافيا لتلبية متطلبات الإتفاقية لملاك السفن الذين يتخذون قراراتهم بسرعة، وستكون القرارات المبكرة بشأن إكمال مشاريع هذه التحديثات مناسبة جدا خلال الفترة القادمة".
ومع ذلك، تشير Poloychronopolou إلى عمليات التحديثات على أنها أكثر من مجرد موارد للمعدات وخطوات للتركيب؛ فيحتاج كل تركيب إلى إكمال دراسة التصميم التفصيلية لضمان التركيب الأمثل على متن السفينة، والذي يتبعه عن كثب مراجعة وموافقة هيئة التصنيف قبل رسو السفينة في الحوض الجاف. "تستغرق كلتا المرحلتين وقتا يجب إضافته إلى خطة المشروع. فيما يتعلق بالجودة، فإن اختيار المقاولين ذوي الخبرة مثل الشركات الهندسية وشركات التركيب بالإضافة إلى مرافق الحوض الجاف ذات الخبرة يمكن أن يخفف من أي مخاوف بشأن جودة التثبيت. ومع ذلك، فإن هذا يحتّم على مالكي السفن التخطيط الجيد والمسبق لضمان التسليم الفعال وفي الوقت المناسب لمشاريعهم".